بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
منشأ الفكرة
تجمعت عندي أسباب كافية لإعادة قراءة السيرة النبوية من جديد، وخاصة الفترة المكية، وبالفعل أمسكت قلمي ورحت أعيد قراءة السيرة النبوية من جديد، قراءة فكرية، ترصد حركة الإيمان والكفر، كيف يتصارعان وكيف يعالجان الناس حتى يومنوا أو يكفروا، وعَرَضَ سؤالٌ: كيف بدّلت الجاهليةُ ملَّةَ إبراهيم؟
كان الجوابُ المتبادر لذهني أن السبب في ذلك هو شخص عمرو بن لحي، لأشياء ذكرتها هناك، ولم يشفِ الجوابُ صدري. ولم يغنِ قراءةُ السيرة وتراجم الرجال وكثيرٌ من كتب الأدب، فرحلتُ وفي نفسي شيء.
وكثر الحديث عن الكذاب اللئيم زكريا بطرس فقلت أسمع بعضَ أطروحاته إن أُصِبْتُ بـ (الكفِّ الذاتي)(1)، فرأيتَه يسب ويشتم ويختال، فقلت: عبدُ الصليب يختال على أرضنا وعرض نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. آلمني. . . أوجع قلبي فِعلُ هذا الحقير الوضيع، فنفضت يدي مما أشغلني وبرزت له مستعينا بربي.
وجاء البحث ـ أثناء الرد عليه ـ على ذات السؤال: كيف بدلت النصرانية دينها؟
الكل يتهم (بولس) (شاول)( 2)، ورحت وراء (بولس) في (أنطاكية) و (غلاطية) و (كرونثوس) و (كلوسي) و (أورشليم) و (أثينا) و (روما) أنظر أحواله وهو يتعامل مع (التلاميذ) و (الفرِّيسيِّين) و (الرومان) وهو يحاور أصدقائه (تيطس) و (تيموثاوس) و (فيمبي)، فازدادت حيرتي.
قد كان حقيراً لا يقوى على تغيير ملة بأكملها، إلا أني وجدت وأنا هناك في مدن أسيا الصغرى أتتبع (بولس) شيئاً يتحركُ على مدِّ البصرِ آراه كالشبحِ ولا ينفعُ في توصيفهِ تدقيقُ النظرِ، ذكّرني بعمرِو بن لحي الخزاعي، وغيرِ عمرو بن لحي الخزاعي.
ودعني أعرض عليك:
في شرح ابن حجر العسقلاني للحديث (3259) من صحيح البخاري (3) (أن عمرو بن لحي كان له تابع من الجن يقال له أبو ثمامة فأتاه ليلة فقال: أجبْ أبا ثٌمامة، فقال: لبيك من تِهامة، فقال: ادخل بلا ملامة، فقال: ايْت سيف جُدة، تجد آلهة معدَّة، فخذها ولا تهب، وادع إلى عبادتها تجب. قال فتوجه إلى جدة فوجد الأصنام التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس، وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فحملها إلى مكة ودعا إلى عبادتها فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب) أ.هـ وجاء مثله في مختصر السيرة لإمام محمد بن عبد الوهاب.
وجاء في سبب عبادة قوم نوح للأصنام أن إبليس هو الذي زيّن لهم أن يصورهم (وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً) ، وهو الذي قام بالصور (التماثيل) لهم، ثم هو الذي أوحى للذين جاءوا من بعدهم بعبادتهم (4).
وقبل هذا جاء إبليس في صورة غلام إلى رجل من أولاد آدم الأُول يسكن السهل وأسمعه وقومَهُ المزمار ومازال بينهم على هيئة غلامٍ أَجير حتى اتخذوا عيداً تتجمل فيه النساء للرجال ويتجمل الرجاء للنساء، ونزل رجال الجبل، وانتشرت الفاحشة، والقصة كاملة عند الطبري وغيره في تفسير قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [سورة الأحزاب: 33].
وفي التصور الإسلامي نجد أن الشياطين في صفِّ الكافرين ضد المؤمنين، حين الدعوة (الجدال بالتي هي أحس ) وحين القتال، فصفُّ المخالفين لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكون من الإنس والجن معا، هذا المعنى صريحٌ في القرآن العظيم، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام: من121]، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام: 112]، وأخبر الله تعالى أن الكافرين اتخذوا الشياطين أولياء {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [سورة الأعراف: من 30]، وأن الشياطين تؤزُّ الكافرين {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [سورة مريم: 83]. وأن الشياطين بتسلطهم على الكافرين كانت تلقي في أسماعهم ما لم يتكلم به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة الحج: 52].
ومن الناحية الحركية نجد أن الشياطين حضرت في كل الأحداث الكبرى ضد المؤمنين... حضوراً مباشراً ، في يوم (بيعة العقبة الثانية) حاول الشيطان إفشال البيعة ونادى قريشاً فتأخرت ولو أنها تعجلت لأفسدت ، و كبيرهم إبليس هو الذي حرَّض قريشاً وشجعها وما زال بها حتى خرجت يوم بدر تقاتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال الله تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الأنفال : 48] ، وحضر الشيطان يوم أحد يؤز الكافرين ويخدع المؤمنين وخبره مشهور معروف ، قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [سورة آل عمران :155] .
فهذا الشيطان شاء الله أن يُظهر الفسق عن طريق الغناء على يديه، وشاء الله أن يظهر الشركُ مباشرة على يديه، في قوم نوح وفي العرب.
ما الفائدة من هذا الموضوع؟
أركز على أمرين:
الأول: الفائدة هو إعطاء الصراع مع الباطل بعداً أوسع مما هو عليه الآن، أو بالأحرى إرجاعه لوضعه الصحيح الذي كان عليه حين بدأ على يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل رسل الله ـ صلوات الله عليهم وتسليماته ـ، فالحركة الإسلامية لها خصوصية مطلقة في توصيف الواقع والتعامل معه، وحين نقول أن الشيطان حاضر حضورا فعلياً فإن هذا من شأنه أن نستعمل له أدواته، والله حين تحدث عن مكر (نزغ) الشياطين أخبر أن علاجه الوحيد هو الاستعاذة بالله.. اللجوء إلى الله {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأعراف: 200]، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة فصلت: 36]، وحين ننظر للطرف الآخر على أنهم جنود الشياطين، وأن بينهم الشياطين على الحقيقة نبصر الطريق، ونعرف ماذا نركب للسفر.. وبم نستعد للنزال {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [سورة آل عمران: 120].
وتبدوا أهمية الخصوصية الشرعية في التشخيص والعلاج حين نعلم أن كثيراً من الإسلاميين يناقشون المسائل الشرعية من منطلقات دنيوية، يبحثون عن النصر بأسباب مادية يغلفونها بطلاءٍ باهت من الشريعة الإسلامية.
الثاني: إعادة قراءة النصرانية من جديد على أنها ديانة الشيطان، فهو الذي ظهر لـ (بولس ـ شاول)، هو ربه الذي كان يوحي إليه، والشواهد على ذلك كثيرة غير ما قدمت، منها أن الصليب مرتبط بإبليس، وهو عنده رمز لقطع الطريق المستقيم على عباد الله الموحدين السائرين إلى جنات النعم ( 5)، ومنها أن (تجسد الإله) بدعة تكررت وكان آخرها ـ لا أولها ـ تجسد الإله في شخص المسيح ـ عليه السلام ـ، ومنها أن (الصلب من أجل الفداء) ليس بجديد، ومنها أن نصرانية بولس ومن جاء بعده تتطابق كلية أو تكاد مع الوثنيات القديمة. ومنها مفردات حياة بولس التي تروى لنا لا يمكن قبولها بهذا السياق، فكيف لا يرى المسيح وقد كان معه في قرية واحدة عشرين عاماً أو يزيد، وأين هي (العربية) وماذا كان يعمل بها، وغير ذلك كثير. وقراءة من هذا النوع تقدم الكثير للحيارى من النصارى، فهي قراءة مقبولة جدا، وتريح قلوب كثيرٍ من المسلمين ممن يتكلم إليهم عباد الصليب.